فصل: سُئِلَ عن تفسير قوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فَصْـل

فى قوله فى آخر الآية‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، فوائد جليلة، منها‏:‏ أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة فى هذا السياق تنبيه على أنه لا يخلو مؤمن من بعض هذه الذنوب التى هى ترك غض البصر وحفظ الفرج، وترك إبداء الزينة وما يتبع ذلك، فمستقل ومستكثر، كما فى الحديث‏:‏ ‏(‏ما من أحد من بنى آدم إلا أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا‏)‏‏.‏وذلك لا يكون إلا عن نظر، وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قـال‏:‏ ‏(‏كل بنى آدم خطـاء، وخير الخطـائين التوابـون‏)‏، وفى الصحيـح عن أبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ يا عبادى إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالى، فاستغفرونى أغفر لكم‏)‏‏.‏

وفى الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ ما رأيت شىئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق‏)‏ الحديث إلى آخره‏.‏ وفيه‏:‏ ‏(‏والنفس / تتمنى ذلك وتشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه‏)‏ أخرجه البخارى تعليقًا من حديث طاووس عن أبى هريرة‏.‏ ورواه مسلم من حديث سهيل بن أبى صالح، عن أبيه عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة‏:‏ العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناهما البطش، والرجلان زناهما الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه‏)‏، وقد روى الترمذى حديثًا واستغربه عن ابن عباس فى قوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا اللَّمَمَ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن تغفر اللهم تغفر جمًا، وأى عبد لك لا ألما‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ أن أهل الفواحش الذين لم يغضوا أبصارهم ولم يحفظوا فروجهم مأمورون بالتوبة، وإنما أمروا بها لتقبل منهم، فالتوبة مقبولة منهم ومن سائر المذنبين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 25‏]‏، وسواء كانت الفواحش مغلظة لشدتها وكثرتها ـ كإتيان ذوات المحارم، وعمل قوم لوط أو غير ذلك ـ وسواء تاب الفاعل أو المفعول به فمن تاب تاب الله عليه، بخلاف ما عليه طائفة من الناس فإنهم إذا رأوا من عمل من هذه الفواحش شيئًا أيسوه من رحمة الله، حتى يقول / أحدهم‏:‏ من عمل من ذلك شيئًا لا يفلح أبدًا، ولا يرجون له قبول توبة، ويروى عن على أنه قال‏:‏ منا كذا ومنا كذا، والمعفوج ‏[‏المعفوج‏:‏ مأخوذ من العَفْج، وهو أن يفعل الرجل بالغلام فعل قوم لوط، وربما يكنى به عن الجماع‏]‏ ليس منا، ويقولون‏:‏ إن هذا لا يعود صالحًا ولو تاب، مع كونه مسلمًا مقرًا بتحريم ما فعل‏.‏

ويدخلون فى ذلك من استكره على فعل شىء من هذه الفواحش، ويقولون‏:‏ لو كان لهذا عند الله خير ما سلط عليه من فعل به مثل هذا واستكرهه، كما يفعل بكثير من المماليك طوعًا وكرهًا، وكما يفعل بأجراء أهل الصناعات طوعًا وكرهًا، وكذلك من فى معناهم من صبيان الكتاتيب وغيرهم، ونسوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، وهؤلاء قد لا يعلمون صورة التوبة، وقد يكون هذا حالا وعملا لأحدهم، وقد يكون اعتقادًا، فهذا من أعظم الضلال والغى، فإن القنوط من رحمة الله بمنزلة الأمن من مكر الله ـ تعالى ـ وحالهم مقابل لحال مستحلى الفواحش، فإن هذا أمن مكر الله بأهلها، وذاك قنط أهلها من رحمة الله، والفقيه كل الفقيه هو الذى لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصى الله‏.‏

وهذا فى أصل الذنوب الإرادية نظير ما عليه أهل الأهواء والبدع / فإن أحدهم يعتقد تلك السيئات حسنات فيأمن مكر الله، وكثير من الناس يعتقد أن توبة المبتدع لا تقبل، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى لنا نفسه أسماء، فقال‏:‏ ‏(‏أنا محمد، وأنا أحمد، والمُقَفِّى، والحاشر، ونبى التوبة، ونبى الرحمة‏)‏، وفى حديث آخر‏:‏ ‏(‏أنا نبى الرحمة وأنا نبى الملحمة‏)‏‏.‏ وذلك أنه بعث بالملحمة، وهى‏:‏ المقتلة لمن عصاه، وبالتوبة لمن أطاعه، وبالرحمة لمن صدقه واتبعه، وهو رحمة للعالمين، وكان من قبله من الأنبياء لا يؤمر بقتال‏.‏

وكان الواحد من أممهم إذا أصاب بعض الذنوب يحتاج مع التوبة إلى عقوبات شديدة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏، وقد روى عن أبى العالية وغيره‏:‏ أن أحدهم كان إذا أصاب ذنبًا أصبحت الخطيئة والكفارة مكتوبة على بابه، فأنزل الله فى حق هذه الأمة‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135، 136‏]‏، فخص الفاحشة بالذكر مع قوله‏:‏ ‏{‏ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏، والظلم يتناول الفاحشة وغيرها تحقيقًا لما ذكرناه / من قبول التوبة من الفواحش مطلقًا‏:‏ من اللذين يأتيانها من الرجال والنساء جميعًا‏.‏

وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها‏)‏،وفى الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه‏)‏، وفى السنن عنه ـ أيضًا ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها‏)‏، وعنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قال الشيطان‏:‏ وعزتك يارب لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم فى أجسادهم، فقال الرب ـ تعالى ‏:‏ وعزتى وجلالى وارتفاع مكانى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى‏)‏، وعن أبى ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله‏:‏ىابن آدم، إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ولا أبالى، ابن آدم، لو لقيتنى بقراب الأرض خطىئة ثم لقيتنى لا تشرك بى شئًا لأتيتك بقرابها مغفرة‏)‏‏.‏

والذى يمنع توبة أحد هؤلاء إما بحاله وإما بقاله، ولا يخلو من أحد أمرين‏:‏ أن يقول‏:‏ إذا تاب أحدهم لم تقبل توبته، وإما أن / يقول أحدهم‏:‏ لا يتوب الله على أبدًا، أما الأول فباطل بكتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين، وإن كان قد تكلم بعض العلماء فى توبة القاتــل وتوبــة الداعى إلى البـدع، وفى ذلك نـزاع فى مذهب أحمد، وفى مذهـب مالك ـ أىضًا ـ نزاع ذكره صاحب التمثيل والبيان فى ‏(‏الجامع‏)‏ وغيره، وتكلموا ـ أيضًا ـ فى توبة الزنديق، ونحو ذلك‏.‏

فهم قد يتنازعون فى كون التوبة فى الظاهر تدفع العقوبة‏:‏ إما لعدم العلم بصحتها، وإما لكونها لا تمنع ما وجب من الحد، ولم يقل أحد من الفقهاء‏:‏ إن الزنديق ونحوه إذا تاب فيما بينه وبين الله توبة صحيحة لم يتقبلها الله منه، وأما القاتل والمضل فذاك لأجل تعلق حق الغير به، والتوبة من حقوق العباد لها حال آخر، وليس هذا موضع الكلام فيها وفى تفصيلها، وإنما الغرض أن الله يقبل التوبة من كل ذنب، كما دل عليه الكتاب والسنة‏.‏

والفواحش خصوصًا ما علمت أحدًا نازع فى التوبة منها، والزانى والمزنى به مشتركان فى ذلك إن تابا تاب الله عليهما، ويبين التوبة خصوصًا من عمل قوم لوط من الجانبين ما ذكره الله فى قصة قوم لوط، فإنهم كانوا يفعلون الفاحشة بعضهم ببعض، ومع هذا فقد دعاهم جمىعهم إلى تقوى الله والتوبة منها، فلو كانت توبة المفعول به أو غيره لا تقبل لم يأمرهم بما لا يقبل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏160- 163‏]‏، فأمرهم بتقوى الله المتضمنة لتوبتهم من هذه الفاحشة، والخطاب وإن كان للفاعل فإنه إنما خص به، لأنه صاحب الشهوة والطلب فى العادة، بخلاف المفعول به، فإنه لم تخلق فيه شهوة لذلك فى الأصل، وإن كانت قد تعرض لـه لمـرض طارئ، أو أجـر يأخـذه من الفاعل، أو لغرض آخر‏.‏ والله ـ سبحانه وتعالى ـأعلم ‏.‏

/  سُئِلَ شيخ الإسلام عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 30، 31‏]‏، والحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذكر زنا الأعضاء كلها، وماذا على الرجل إذا مس يد الصبى الأمرد، فهل هو من جنس النساء ينقض الوضوء أم لا‏؟‏ وما على الرجل إذا جاءت إلى عنده المردان، ومد يده إلى هذا وهذا ويتلذذ بذلك، وما جاء فى التحريم من النظر إلى وجه الأمرد الحسن‏؟‏ وهل هذا الحديث المروى‏:‏ أن النظر إلى الوجه المليح عبادة صحيح أم لا‏؟‏ وإذا قال أحد‏:‏ أنا ما أنظر إلى المليح الأمرد لأجل شىء، ولكنى إذا رأيته قلت‏:‏ سبحان الله‏!‏ تبارك الله أحسن الخالقين‏!‏ فهل هذا القول صواب أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب ـ قدس الله روحه، ونور ضريحه، ورحمه ورضى عنه، ونفع بعلومه وحشرنا فى زمرته ‏:‏

/ الحمد لله، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان فى مذهب أحمد وغيره‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء، وهو المشهور فى مذهب مالك، وذكره القاضى أبو يعلى فى ‏(‏شرح المذهب‏)‏، وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى‏.‏

والثانى‏:‏ أنه لا ينقض، وهو المشهور من مذهب الشافعى‏.‏ والقول الأول أظهر،فإن الوطء فى الدبر يفسد العبادات التى تفسد بالوطء فى القبل، كالصيام والإحرام والاعتكاف، ويوجب الغسل كما يوجبه هذا، فتكون مقدمات هذا فى باب العبادات كمقدمات هذا، فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم، كما عليه لو مس أجنبية لشهوة، وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة فى نقض الوضوء‏.‏

والذى لا ينقض الوضوء بمسه يقول‏:‏ إنه لم يخلق محلاً لذلك‏.‏

فيقال‏:‏لا ريب أنه لم يخلق لذلك، وأن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات، لكن هذا القدر لم يعتبر فى بعض الوطء، فلو وطئ فى الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام، وإن كان الدبر لم يخلق محلا / للوطء،مع أن نفرة الطباع عن الوطء فى الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة، ونقض الوضوء باللمس يراعى فيه حقيقة الحكمة، وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين ـ كمالك وأحمد وغيرهما ـ يراعى كما يراعى مثل ذلك فى الإحرام والاعتكاف وغير ذلك‏.‏

وعلى هذا القول فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم، حتى لو مس بنته وأخته وأمه لشهوة انتقض وضوؤه؛ فكذلك من الأمرد‏.‏

وأما الشافعى وأحمد فى رواية فيعتبر المظنة، وهو أن النساء مظنة الشهوة، فينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بغير شهوة؛ ولهذا لا ينقض مس المحارم، لكن لو مس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة‏.‏ وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة، والتلذذ بمس الأمرد ـ كمصافحته ونحو ذلك ـ حرام بإجماع المسلمين، كما يحرم التلذذ بمس ذوات المحارم والمرأة الأجنبىة، كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطى أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية، فيجب قتل الفاعل والمفعول به، سواء كان أحدهما محصنًا أو لم يكن، وسواء كان أحدهما مملوكًا للآخر، أو لم يكن، كما جاء ذلك فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم، وقتله بالرجم، كما قتل الله قوم لوط؛ وبذلك جاءت الشريعة فى قتل الزانى أنه بالرجم، فرجم النبى صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك، والغامدية، واليهوديين،/والمرأة التى أرسل إليها أنيسا، وقال‏:‏ ‏(‏اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها‏)‏ فرجمها‏.‏

والنظر إلى وجه الأمرد بشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم،والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو كانت شهوة التلذذ بالنظر،كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية‏:‏كان معلومًا لكل أحد أن هذا حرام،فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة‏.‏

وقول القائل‏:‏ إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة، كقوله‏:‏ إن النظر إلى وجوه النساء الأجانب والنظر إلى محارم الرجل كبنت الرجل وأمه وأخته عبادة‏.‏ ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة فهو بمنزلة من جعل الفواحش عبادة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

ومعلوم أنه قد يكون فى صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما فى صور المردان، فهل يقول مسلم‏:‏ إن للإنسان أن ينظر على هذا الوجه إلى صور النساء ـ نساء العالمين وصور محارمه ـ ويقول‏:‏ إن ذلك عبادة‏؟‏ بل من جعل مثل هذا / النظر عبادة فإنه كافر مرتد، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل‏.‏

وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفاحشة عبادة، أو جعل تناول يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر من الحشيشة عبادة، فمن جعل المعاونة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئًا من المحرمات التى يعلم تحريمها فى دين الإسلام عبادة‏:‏ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ وهو مُضَاهٍ به للمشركين ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون‏:‏ لا نطوف فى الثياب التى عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية‏.‏ وقد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن جعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة‏؟‏‏.‏

والله ـ سبحانه ـ قد أمر فى كتابه بغض البصر‏.‏ وهو نوعان‏:‏ غض البصر عن العورة‏.‏ وغضه عن محل الشهوة‏.‏

فالأول‏:‏ كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة‏)‏‏.‏ ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال لمعاوية بن حيدة‏:‏ ‏(‏احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك‏)‏ ، / قلت‏:‏ فإذا كان أحدنا مع قومه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن استطعت أن لا تريها أحدًا فلا يرينها‏)‏، قلت‏:‏ فإذا كان أحدنا خاليًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فالله أحق أن يستحىا منه من الناس‏)‏

ويجوز كشفها بقدر الحاجة، كما تكشف عند التخلى، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده ـ بحيث يجد ما يستره ـ فله أن يغتسل عريانًا، كما اغتسل موسى عريانًا، وأيوب، وكما فى اغتسال النبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، واغتساله فى حديث ميمونة‏.‏

وأما النوع الثانى من النظر ـ كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية‏:‏ فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد، وتلك المحرمات إذا تناولها مستحلاً لها كان عليه التعزير؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر‏.‏ وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظـر إلى النساء ونحوهن‏.‏ وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم بشهوة‏.‏

والخالق ـ سبحانه ـ يُسبَّح عند رؤية مخلوقاته كلها، وليس خلق الأمرد بأعجب فى قدرته من خلق ذى اللحية، ولا خلق النساء بأعجب فى / قدرته من خلق الرجال؛ فتخصيص الإنسان بالتسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره كتخصيصه بالتسبيح بالنظر إلى المرأة دون الرجل ؛ وما ذاك لأنه أدل على عظمة الخالق عنده؛ ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله ، وقد يذهله ما رآه ، فيكون تسبيحه لما حصل فى نفسه من الهوى ، كما أن النسوة لما رأين يوسف‏:‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏)‏‏.‏ فإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏، وقال فى المنافقين‏:‏‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏‏.‏

فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم، لما فيهم من البهاء والرواء، والزينة الظاهرة، وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة، قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فيكف بمن ينظر إليه لشهوة‏؟‏

/ وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى،وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته،وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور فهذا حسن‏.‏ وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه، كما ينظر إلى الخيل والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار والأنهار، والأزهار؛فهذا ـ أيضًا ـ إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرئاسة والمال فهو مذموم بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏131‏]‏‏.‏

وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط‏:‏ كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذى لا يستعان به على الحق‏.‏

وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بالنظر أو كان نظرًا بشهوة الوطء، وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره إلى الأشجار والأزهار، وما يجده عند نظره إلى النسوان والمردان‏.‏

فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعى، فصار النظر إلى المردان ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ ما تقترن به الشهوة‏.‏ فهو محرم بالاتفاق‏.‏

/ والثانى‏:‏ ما يجزم أنه لا شهوة معه كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن، وابنته الحسنة، وأمه الحسنة، فهذا لا يقترن به شهوة إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم‏.‏ وعلى هذا نظر من لا يميل قلبه إلى المردان، كما كان الصحابة وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق من هذا الوجه بين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبى أجنبى، لا يخطر بقلبه شىء من الشهوة؛ لأنه لم يعتد ذلك، وهو سليم القلب من قبل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين فى الطرقات مكشفات الرؤوس، ويخدمن الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس فى مثل هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد‏.‏

وكذلك المردان الحسان، لا يصلح أن يخرجوا فى الأمكنة والأزقة التى يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج، ولا من الجلوس فى الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك‏.‏

وإنما وقع النزاع بين العلماء فى ‏(‏القسم الثالث‏)‏ من النظر، وهو‏:‏ النظر إليه بغير شهوة‏.‏ لكن مع خوف ثورانها، ففيه وجهان فى / مذهب أحمد، أصحهما وهو المحكى عن نص الشافعى وغيره أنه لا يجوز‏.‏ والثانى‏:‏ يجوز، لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك بل قد يكره‏.‏ والأول هو الراجح، كما أن الراجح فى مذهب الشافعى وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها، ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية، لأنه مظنة الفتنة‏.‏ والأصل أن كلما كان سبباً للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة‏.‏

ولهذا كان النظر الذى قد يفضى إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لحاجة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة مع عدم الشهوة‏.‏ وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز‏.‏ ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وأدامه، وقال‏:‏ إنى لا أنظر لشهوة كذب فى ذلك، فإنه إذا لم يكن له داع يحتاج معه إلى النظر، لم يكن النظر إلا لما يحصل فى القلب من اللذة بذلك‏.‏

وأما نظر الفجأة فهو عفو إذا صرف بصره، كما ثبت فى الصحاح عن جرير، قال‏:‏ سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، قال‏:‏ ‏(‏اصرف بصرك‏)‏، وفى السنن أنه قال لعلى ـ رضى اللّه عنه‏:‏ يا على، لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الثانية‏)‏‏.‏

وفى الحديث الذي فى المسند وغيره‏:‏ ‏(‏النظر سهم مسموم من سهام إبليس‏)‏، وفيه‏:‏ ‏(‏من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث اللّه قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة‏)‏ أو كما قال‏.‏

ولهذا يقال‏:‏ إن غض البصر عن الصورة التي ينهى عن النظر إليها‏:‏ كالمرأة، والأمرد الحسن، يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر‏:‏

أحدها‏:‏ حلاوة الإيمان ولذته التي هى أحلى وأطيب مما تركه للّه، فإن من ترك شيئاً للّه عوضه اللّه خيراً منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور، لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تنجذب بسببها إلى الصور، حتى تبقى الصورة تخطف أحدهم وتصرعه، كما يصرعه السبع‏.‏

ولهذا قال بعض التابعين‏:‏ ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ اتقوا النظر إلى أولاد الملوك، فإن فتنتهم كفتنة العذارى‏.‏ وما زال أئمة العلم والدين ـ كأئمة الهدى وشيوخ الطريق ـ يوصون بترك صحبة الأحداث، حتى يروى عن فتح الموصلى أنه قال‏:‏ صحبت ثلاثين من / الأبدال كلهم يوصينى عند فراقه بترك صحبة الأحداث، وقال بعضهم‏:‏ ما سقط عبد من عين اللّه إلا ابتلاه بصحبة هؤلاء الأنتان‏.‏

ثم النظر يولد المحبة، فيكون علاقة، لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة، لانصباب القلب إليه، ثم غراما؛ للزومه للقلب‏.‏ كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقاً، إلى أن يصير تتيما، والمتيم‏:‏ المعبد، وتيم اللّه‏:‏ عبد اللّه، فيبقى القلب عبداً لمن لا يصلح أن يكون أخا ولا خادما‏.‏

وهذا إنما يبتلى به أهل الأعراض عن الإخلاص للّه، الذين فيهم نـوع مـن الشـرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال اللّه تعالى فى حق يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف - عليه السلام - مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة‏:‏ عصمه اللّه بإخلاصه للّه، تحقيقاً لقوله‏:‏‏{‏وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39، 40‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ ، و‏(‏الغى‏)‏‏:‏ هو اتباع الهوى‏.‏

وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى، ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة ـ كابن سينا وذويه، أو من الفرس، كما يذكر / عن بعضهم من جُهَّال المتصوفة ـ فإنهم أهل ضلال، فهم مع مشاركة اليهود فى الغى، والنصارى فى الضلال‏:‏ زادوا على الأمتين فى ذلك، فإن هذا وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق كتلطيف نفسه، وتهذيب أخلاقه، أو للمعشوق من السعى فى مصالحه، وتعليمه وتأديبه وغير ذلك، فمضرة ذلك أضعاف منفعته، وأين إثم ذلك من نفعه ‏؟‏‏!‏

وإنما هذا كما يقال‏:‏ إن فى الزنا منفعة لكل منهما بما يحصل له من اللذة والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك، وكما يقال‏:‏ إن فى شرب الخمر منافع بدنية ونفسية‏.‏ وقال تعالى فى الخمر والميسر‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، وهذا قبل التحريم، دع مـا قاله عند التحريم وبعده، فإن التعبد بهذه الصور هو من جنس الفـواحش، وباطنه من باطن الفواحش، وهو من باطن الإثم‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 120‏]‏، وقـال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وليس بين أئمة الدين نزاع فى أن هذا ليس بمستحق، كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحا وأثنى عليه فقد خرج عن إجماع المسلمين، واليهود والنصارى، بل وعمّا عليه عقلاء بنى آدم من جميع الأمم، وهو / ممن اتبع هواه بغير هدى من اللّه‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40، 41‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وأما من نظر إلى المردان ظانا أنه ينظر إلى مظاهر الجمال الإلهى، وجعل هذا طريقا له إلى اللّه، كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة، فقوله هذا أعظم كفراً من قول عُبَّاد الأصنام، ومن كُفْرِ قوم لوط‏.‏ فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين، الذين يجب قتلهم بإجماع كل أمة، فإن عباد الأصنام قالوا‏:‏‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وهؤلاء يجعلون اللّه ـ سبحانه ـ موجوداً فى نفس الأصنام، وحالا فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه فى المخلوقات أنها أدلة عليه، وآيات له، بل يريدون أنه - سبحانه - ظهر فيها، وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء فى الصوفة، والزبد فى اللبن، والزيت فى الزيتون، والدهن فى السمسم، ونحو ذلك مما يقتضى حلول نفس ذاته فى مخلوقاته، أو اتحاده بها، فيقولون فى جميع المخلوقات نظير ما قاله النصارى فى المسيح خاصة، ثم يجعلون المرادن مظاهر الجمال، فيقرون هذا الشرك الأعظم طريقاً إلى استحلال الفواحش، بل إلى استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل / مشايخهم التلمسانى‏:‏ إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما الفرق بين أمى وأختى وبنتى حتى يكون هذا حلال وهذا حرام‏؟‏ قال‏:‏ الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا‏:‏حرام، فقلنا‏:‏ حرام عليكم‏.‏

ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص، إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة، كقول الغالية فى على، أو ببعض الشيوخ، كالحَلاّجِية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور، كصور المردان‏.‏ ويقول أحدهم‏:‏ إنما أنظر إلى صفات خالقى، وأشهدها فى هذه الصورة، والكفر فى هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن باللّه ورسوله‏.‏ ولو قال مثل هذا الكلام فى نبي كريم لكان كافراً، فكيف إذا قاله فى صبى أمرد‏؟‏‏!‏ فقبح اللّه طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها ‏!‏‏!‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 80‏]‏، فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا مع اعترافهم بأنهم مخلوقـون للّه كفارًا، فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا‏؟‏ مع أن اللّه فيها، أو متحد بها، فوجوده وجودها، ونحو ذلك من المقالات‏.‏

/ وأما الفائدة الثانية فى غض البصر‏:‏ فهو نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط‏:‏ ‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 72‏]‏، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب ، بل جنونه، كما قيل‏:‏

سكران سكر هوى وسكر مدامة

فمتى يفيق مــن بـه سـكـران

وقيل - أيضا- ‏:‏

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم

العشق أعظم مما بالمجانين

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه

وإنـما يصرع المجـنون فـى الحـين

وذكر اللّه ـ سبحانه ـ آية النور عقيب آيات غض البصر، فقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وكان شُجَاعُ بن شاه الكرمانى لا تخطئ له فراسة، وكان يقول‏:‏ من عَمَّرَ ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام / المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكَفَّ نفسه عن الشـهوات، وذكـر خصلـة سـادسـة أظـنه هـو أكل الحلال‏:‏ لم تخطئ له فراسة‏.‏ واللّه ـ تعالى ـ يجزى العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏ قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل اللّه له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن فى الأثر‏:‏ الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله؛ ولهذا يوجد فى المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله اللّه لمن عصاه، فإن اللّه جعل العزة لمن أطاعه، والذلة لمن عصاه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏‏.‏

ولهذا كان فى كلام الشيوخ‏:‏ الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا فى طاعة اللّه‏.‏ وكان الحسن البصرى يقول‏:‏ وإن هَمْلَجَتْ ‏[‏هملج‏:‏ مشى مشية سهلة فى سرعة، حسن سير الدابة‏]‏ بهم البراذين ‏[‏البرذون‏:‏ دابة معروفة‏]‏، وطقطقت بهم ذُلُل البغال، فإن ذل المعصية فى رقابهم، أبى اللّه إلا أن يذل من عصاه، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه، وفى دعاء القنوت‏:‏ ‏(‏إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت‏)‏ ‏.‏

/ ثم الصوفية المشهورون عند الأمة ـ الذين لهم لسان صدق فى الأمة ـ لم يكونوا يستحسنون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم فى الكلام فى ذم صحبة الأحداث، وفى الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق‏:‏ ما لا يتسع هذا الموضع لذكره‏.‏ وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر، فيتظاهر بدعوى الولاية للّه، وتحقيق الإيمان والعرفان، وهو من شر أهل العداوة للّه، وأهل النفاق والبهتان‏.‏ واللّه ـ تعالى ـ يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة‏.‏ واللّه ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏